-->

الخصوصية و الكونية - هل تمثل العولمة بتحويل الكوكب إلى فضاء بلا حدود فرصة تاريخية لتواصل حقيقي بين الثقافات

4 minute read

الموضوع : هل تمثل العولمة بتحويل الكوكب إلى فضاء بلا حدود فرصة تاريخية لتواصل حقيقي بين الثقافات

أضحت عبارة " عولمة " من أكثر العبارات تداولا . فلا أحد يتردد في القول اليوم بان   العالم قد اضحي مترابطا بشبكات شتى تربط اطرافه من اقصاه إلى اقصاه عبر وسائل الاتصال ودورة المال و البضائع و التقنيات وشبكات المعلومات جاعلة" من ثقافة الصورة اللغة المشتركة بين كل سكان الأرض. غير أن هذا الكوكب الذي تعولم لا زال يعج بأشكال الصراع والإقصاء وانقطاع الثوامل تحت شعارات شتى مثل " الهوية" أو " الأمن القومي " أو محاربة الإرهاب " أو " حرية التعبير " ... وفي هذا ما يجعل من علاقة العولمة بالتواصل محل اشكال . فهل في العولمة من الخصانص ما يجعلها حقا فرصة تاريخية التواصل حقيقي بين الثقافات ؟ أم أنها ليست إلا قناعا أيديولوجيا جديدا لتبرير هيمنة المركز الرأسمالي الغربي على الأطراف الخاضعة تحت شعار التنمية و الرفاهية والديمقراطية وحقوق الإنسان بعيدا عن كل رهان تواصلي حقيقي بين الخصوصيات الثقافية؟


لا ينبغي فهم العولمة على أنها سياسة تم التخطيط لها بشكل ارادي من قبل بعض الدول لأجل تحقيق مصالحها الاقتصادية والسياسيّة بل هي مسار انطلق بفعل تضافر عدة عوامل علمية وتكنولوجية وسياسية واقتصادية. فتطوير تكنولوجيات الاتصال والبث التلفزيونية الرقمي وشبكة المعلومات و أجهزة الحاسوب وانهيار الأنظمة الاشتراكية كتعبير عن نجاعة الليبيرالية واقتصاد السوق كلها عوامل تضافرت لتفسخ الحدود التي كانت موضوعة بين الدول والأسواق والثقافات وتجعل الكوكب مجالا مترابطا لا إمكانية فيه للعزلة والانطواء والانفصال لأنه أضحى سوقا واحدة لرؤوس الأموال و البضائع و التقنيات و الخدمات و مشهدا مرئيا واحدا لمور البث التلفزيوني و الإنتاج السينماني والموسيقي وشبكة واحدة للمعلومات عبر شاشات الحاسوب. إن هذا الاندماج هو الذي يبرر استعادة ذلك الوصف الذي قدمه ماك لو هن للعالم بأنه قد صار " قرية شاملة من هذا الواقع الجديد الذي أنتجه مسار العولمة قد أتاح وسائل جديدة في التواصل لم تتح من قبل أبدا يمكنها أن تكون وسائل تلاقح حقيقي بين الثقافات. فعند الانطلاق من الجانب الاقتصادي للعولمة يمكن الانتباه إلى أن الحركة الحرة المنتجات تمنح فرصة الحصول على تقنيات التواصل. فإذا كان العصر الراهن كما وصفة دوبر في عصر المرني ! فإن وسائطها هي التلفزيون و أجهزة الاستقبال و الهواتف النقالة والحاسوب التي لا يمكن الحصول عليها دون هذا الانفتاح الاقتصادي.
إن تلك الوسائل التقنية التي تدخل بالجميع إلى عصر الصورة لا ينبغي أن تكون نمانم مجهولة للتفاخر والتميز الطبقي بل تقنيات تطوع لأجل التعامل مع العولمة في جانبها الثقافي اضطلاعا برهان التواصل بين الشعوب  فهي وسائط النفتاح على الغير لاكتشاف في خصوصيته الفريدة فما تبثه المحطات وتنشره مواقع الانترنات هي الخصومات كما يقوّمها أصحابها انطلاقا من فهمهم الداخلي الاصيل لهويتهم,ولكن هذه الوسائط التي تكشف الغير لنا في خصوصيته هي كذلك السبيل ليتعرف الغير علينا ونظهر له في خصوصيتنا التي تميزنا،  وفصلا عما سبق تكون تلك الوسائط وسائل فعالة في تبديد الأحكام المسبقة بما تحمله من تشويه فعبر الإنتاج التلفزيوني و البرمجيات الرقمية يجد في كل مكان وسائط أنجع على التعريف بالهوبات وتحقيق تلاقحها الخلاق بناء على الاعتراف بنية التنوع كمكون للوحدة الإنسانبه وكمصدر لإثرائها . عندئذ يصبح من الممكن تجسيم ذلك المبدأ الذي عبر عنه ليفي ستروم لما كتب "لا يمكن للحضارة العالمية تكون شيئا اخر على المستوى العالمي غير تحالف ثقافات التي تحتفظ كل واحدة منها بخصوصيتها


ان التحليل السابق لبنية العولمة وقدرتها على الاضطلاع بمقتضيات التواصل الحقيقي بين الثقافات قد قاربها على مستوى وسائطها التقنية من منطلق تكافؤ الشعوب في التحكم فيها وتطوبعها و مراهنتها جميعا على التواصل الحقيقي القائم على احترام الاختلاف كمكون للوحدة الإنسانية وكمصدر لإثر انها : فهل تجسم العولمة هذه المعطيات أم أنها لا تعدو أن تكون قناعا ايديولوجيا لإخفاء هيمنة الطرن الأقوي الذي ابتكر تلك الوساط. ويوظفها لأجل تحقيق مصالحه بعيدا عن أوهام التواصل بين الثقافات؟


ان تشخيص العولمة على أنها مسار نتج عن تداخل منظومات متعددة في تحويل الكوكب إلى فضاء بلا حدود لا ينبغي أن يقود إلى اعتبارها حركة " فيزيائية تحكمها قوانين موضوعية مستقلة عن أهداف القوى العالمية المهيمنة. فما لا يمكن إنكاره عن هذا المسار انه تحركه الرأسمالية العالمية و القوى التي تقف وراءها وهي الشركات العملاقة المتعددة الجنسيات والدول الغربية باجهزتها وجيوشها. وفي ذلك ما يقود إلى استنتاجين. أولها أن العولمة لا تضع الثقافات جميعا على قدم المساواة نظرا للتفاوت الاقتصادي و العلمي والتكنولوجية والعسكرية بينها . فالغرب الأوروبي والأمريكي هو الذي ابتكر وسائل الاتصال وشبكة المعلومات، كما بين ذلك ريجيس دوبري في مؤلفه " حياة الصورة وموتها " وهو الذي يتحكم في سوق رؤوس الأموال والبضائع و التقنيات ، وهو الذي يسيطر على القارات والمحيطات وهو بذلك من يسيطر فعليا على تلك الوسائط وينتج مضامينها التلفزيونية والإعلامية والمعلوماتية فيحولها بذلك إلى أذوات تعبير عن قيمة الثقافية الخاصة مقدما إياها على انها كونية أما الاستنتاج الثاني فهو غياب التواصل الذي قادت إليه العولمة فعليا. فمثلما بين ذاك جان بودريار فإن استغلال الغرب لتفوقه الاقتصدي
والسياسي والعلمي والعسكريين ليعولم ثقافته باسم الكوني قد يؤدي إلى مقاومة عنيدة من قبل الثقافات الأخرى باسم المحافظة على خصوصيتها وتأصيل هويتها مما قد إلى مازن سعته العنف و العنف المضاد

وكخلاصة لما سبق يمكن القول أن العولمة وان كانت قد أتاحت وسائط جديدة لتواصل أفضل بين الثقافات فإن علاقات الهيمنة التي تحركها تعوق ذلك وتحول إمكانيات التواصل إلى اتصال أحادي يفرض باسم القوة خصوصية ثقافية معينة باسم الكوني، غير أنه لا ينبغي الاستسلام لذلك إذ على الثقافات أن تتعامل ايجابيا مع الإمكانيات التكنولوجية والعلمية الجديدة وتحافظ على رهان ,التواصل ضد أشكال الهيمنة والإقصاء