«الشحاذ» لنجيب محفوظ
- البناء الفتي:
رواية "الشحاذ" هي رواية البطل الواحد،
ومركزية هذه الشخصية تتجلى في تلون مختلف المقومات الفنية بأزمتها، من عنوان
الرواية إلى
الشخصيات والأمكنة والأزمنة والسرد والحوار والوصف،
والبعد الذهني للرواية يجعل كل هذه المقومات تحيل على البطل وتتأثر بأفعاله
وأحواله.
1- الشخصيات:
أ- رمزيتها: • عمر الحمزاوي: هو "الشحاذ" بطل
الرواية التي تنهض على مغامرته الوجودية ومأساته، وكلك الوقائع والشخصيات تتصل به
بوجه مباشر (أسرته مثلا) أو غير مباشر (الرجل والمرأة
اللذان سمع حديثهما عن الحب)، وهو في الرواية محام بلغ الخامسة والأربعين،
وهي من امتلاً فيها بكل أسباب النجاح الاجتماعي (مكانته
المرموقة)، والعائلي (أسرة محترمة)، والعملي (محام فـ)، والرّوجي (زوجة
مثاليّة)، والمادي (الثروة)، لكن هذا الامتلاء آل به إلى
الشعور بفراغ عظيم فقد فيه الإحساس بقيمة كل هذا إلى حد القرف ولا عزاء فيما
بلغناه من ثراء ونجاح، فالعفن قد دفن كل شيء ليندا البحث
عن حل يعيد له الإحساس بذاتيته، فقاده البحث إلى خوض تجارب يتوهم
في أولها انفراج أزمته، إلا أنه يرتد في كل مرة إلى قلقه
الأول الذي افتتحت به الرواية وانغلقت عليه: "ثم يتبدد كل شيء بلا
معنى"، ذلك
لأنه كان مريضا بلا مرض. و
: حامد صبري: يمثل شخصية الطبيب الناجح التي يرى في
عمله سببا لإقباله على الحياة التي حاول دفع البطل إليها الكتنا
نحب الحياة، هذا هو المعنى" لذلك كان تمله لمره ما
متصلا بتشخيص طبي سطحي يرى فيه البطل قادرا على تجاوز أزمته
الوجودية بمجرّد إجازة أو "بحبة بعد الأكل أو ملعقة
في النوم، فهو يعتبرها مجرّد إجهاد"، وهو يحاول استثارة شعور البطل بمعنى
حياته
عبر تذكيره المستمر بمسيرته اللامعة في الماضي والحاضر،
لاسيما تجربته الشعرية الكن وجها منك رسخ في ذاكرتي أكثر من أي سواه،
هو عمر الشاعر !"، ويدل إسناده مهمة التعرف إلى
الدّاء إلى البطل نفسه على الأساس الواهم الذي بني عليه تشخيصه نظرا للهوة بينهما
في رؤية الحياة: "من الآن فصاعدا أنت أنت الطبيب"
: مصطفى المنياوي: هو الجانب الذي يشد البطل إلى
مجاراة العصر وركوب موجة التغيير التي حوّلت جذريا مفاهيم الفن والعلم
والحياة، وهو يسعى إلى دفع البطل لكي يتمتع بأسباب
النجاح التي بلغها رغم تخليه عن أحلام الشباب ومبادئه التي كاد يدخل السجن من
أجلها "إننا بلغنا سن الرشد، انظر إلى نجاحك في
الحياة على سبيل المثال، وفي رأيي أن الترفيه غاية جليلة لمتعبي القرن
العشرين"، لذلك
كثيرا ما يتكره بالهناء من حوله عند خوضه تجارب تهدد
استقراره القد جاريتك وساعدتك على أمل أن يتبين لك عبث المحاولة لكتك
غرقت"، لذلك مثل عمله الصحفي الذي يمارسه بدافع
التكتب لا غير دليلا على تجرّده من المبادئ التي آمن بها في شبابه.
• عثمان خليل: رمز للمناضل الثابت على مبادئه التي
دخل السجن من أجلها، وتكتم مخلصا على صديقيه فلم يورطهما معه،
وهو الجانب الذي غنّى شعور البطل بالذنب لانجرافه خلف
حياة البذخ على حين أن عثمان لم يتخل عمّا يؤمن به لا سيما بغضه لحياة
البورجوازية المجرّدة من القيم، ويتضح ذلك عند انقباضه
لدي ذكر الطبيب اسمه فقد "تجهم وجه عمر. لطمته الأكرى بقبضة من حديد"،
وقد سعى بعد هروبه من السجن إلى أن يعوّض له بعضا من
فضله عليه بأن ترك له مكتب المحاماة حتى لا يقف عثمان على تمتعه
بالحياة المرفقة التي حرم منها، ويمثل حمل بثينة لولد من
عثمان وحرصه على رعايته بعد القبض عليه إشارة رمزية إلى امتداد روح
المناضل القديم في نفس بشري جديد يعتبر من تجاربه ويُحيي
طريق المجد الذي أضاعه انتهى ... انتهى ...لقد قبض عليه ... وانتهى
كل شيء، وهمست: ليس لشيء نهاية
- زينب: هي زوجته التي تشدّه إلى جدران البيت وإلى
فراش صار كالقبر"، وهي بسيطة التفكير غير مسكونة بهواجسه "بديع أن
تتخلّص من سؤال" على حين أن هذا التفكير العاقل
يستقرّه بلا سبب. وقد مات رمزا للتخمة فقد صارت رمزا للبنك والمال" فلم تعد
تمثل
إلا تمثالا لوحدة الأسرة والبناء والعمل"، ويدل على
ذلك تعلقها بالبيت وامتلاؤها بمظاهر البذخ التي أصبح يتقزز منها وزينب مستغرقة
في النوم مكتظة بالنوم والشبع تتفرج شفتاها عن شخير خفيف
متواصل، لذلك لم يحتمل العيش معها تحت سقف الكذب فهجر بيته "ولكن
للأسف لم أعد أطيقها".
- بثينة: مثلت رمز المصالحة بين العلم و الفن
والتواصل بين الماضي الحاضر، فقد أخذت عن عمر تجربته الشعرية، وهي
تكرز صورة أمّها عندما كانت في الرابعة عشرة بقامتها
الرشيقة، كما أنّها تفوق فتيات جيلها جمالا، وبمثل زواجها من عثمان وحملها منه
ثمرة التوازن الذي لم يحققه البطل بذاته، إنما تحقق
متشظيا في هذا الزواج، وقد مثلت بثينة مرآة يفتضح عجزه أمام قوة حجتها وحضورها،
لا سيما في أطوار تأزمه الذي هدد تماسك الأسرة: ترامقا
في صمت في جو مشحون بالعتاب والشعور بالإثم. وتذكرت الكذبة السوداء .
وعضرك خزي لم تشعر به من قبل".
مارجريت: اسمها رمز لأقحوانة جذابة لكنها سريعة الأبول
بطبعها، ذلك أنّها تجربة الجسد الأولى التي نبهت فيه حواسه وأوقعت
في وهمه أنها المعنى الذي يبحث عنه فكانت "التشوة
ثم كانت كذبة عابرة"، حتى إذا عاد إلى رؤياها أوقدت اشتهاؤه لها بإنشادها:
كلما
رأيتك كثيرا ازددت شهوة"، ثم تنتهي تجربته معها بعد
إلحاحها على أن يبتي لهما شقة فرفض واقتنع بأنه لا جدوى من الاستمرار. ذلك
أن تشوة الجنس أقصر من أن يكون لها أثر .
• وردة : اسم على مسمى، لأن شذاها سيأسر حواست عمر
في البداية- ذلك أنها كانت "فتاة مثقفة، بنت ناس، جميلة لكنها
سرعان ما تذوي، فتقتلع من نفسه وكأنها زهرة صناعيّة، رغم
أنها غمرته بحبّ الحد الجنون"، وهي التي أشعرته بأنّه "آدم في الجنة"،
حتى رأي معنى الوجود في الحب كلما رأيت أنثى خَيّل إلي
أني أرى الحياة على قدمين، لكنه بعد تجدد رغبته في مارجريت عند اللقاء
بها ثم الخروج معها حتى علمت وردة وهجرته تأكد أن نشوة
الجت لاتتون
• سمير: سمّاه كذلك حتى يحميه اسمه من الضجر، وقد
تهيّأ له في الحلم "برأس عثمان"، وكأنه يرمز بذلك إلى امتداد نفس
المناضل القديم في ذات ابنه الذي سيصحح درب أبيه الضائع
بين الأزمنة.
ب- العلاقات بينها: انبنت جل العلاقات بين شخصية البطل
وبقية الشخصيّات على صدام متأت من تقابل الرؤى بينها :
• بين عمر الشاب وعمر الكهل: "انقلب المتطلع
إلى سر الوجود إلى محام ثري غارق في الذهنيّات"
بين عمر والطبيب: في حب الحياة: الكتنا نحب الحياة، هذا
هو المعنى // شد ما كرهتها في الأيام الأخيرة"، في قيمة الشعر بعض زملائي من
الأطباء الشعراء يُضحون بالطب في سبيل الشعر // ذكرى
غبراء كالطقس المنحوس فمتى يسكت عنها"
- بين عمر ومصطفى: في حقيقة النجاح والفشل: الحقيقة
أننا نتحطم واحدا بعد آخر // بل قل إننا بلغنا سن الرشد". في علاقة الفلسفة
بالفنّ :
ان يخيّل إلي أن التفلسف قد قضى على الفن ! // مصطفى: بل
قضى العلم على الفلسفة والفن". في منزلة الفنّ : بينما يرى البطل أن الفن
قد تراجعت قيمته
• بين عمر وبثينة: في حقيقة كتابة الشعر: لا ... لا
... لست شاعرا ... كانت لعبة من لعب الطفولة ... // بثينة: مؤكد أنك كنت شاعرا
..."،
في الاعتراف بالخيانة: بثينة: إني أصدّقك فتكلّم ...
وحياتي عندك تكلّم ... // عمر: وفي يأس شديد قال: لا شيء"، في انكشاف
الخيانة: "ولكنك قلت لي "لا" // وهو
ينتقد محترقا: كان الصدق غير لائق"
" بين عمر وعثمان: في الثبات على المبادئ:
"وذكر الآخر في السجن ... يوم احترقت بلهيب الخطر. لكنه لم يعترف. رغم
الأهوال لم يعترف.
وذاب في الظلمات كأن لم يكن. وأنت تمرض في الترف".
: بين عمر وزينب: في النظرة إلى الأسرة: كانت هي
تنظر إلى البيت على أنه السعادة، على حين أنه لم يعد بالمأوى المحبوب" لديه.
: بين عمر ومرغريت: في الاستقرار والانغلاق على متعة
أبديّة: كانت تلخ عليه في أن يجد لهما مأوى بديلا من مغامرات الطرق، لكنّه يرفضه
ذلك "أليس من الأفضل أن يكون لنا مأوى؟ // فأجاب
بغموض: كلاً ...وقد اقتنع بأنه لا جدوى من الاستمرار".
* بين عمر ووردة: في الإيمان بالحب نشوة أبدية ومعنى
للحياة: هي ترى في الحب شعورا أبديّا لا ينقضي، أمّا هو فالحب عارض يتغيّر:
"ولكنّ
لم تعد تحبني ...// أحبك ولكن عاودني المرض"
2- المكان:
أ- أنواعه: • بين الانغلاق أوالانفتاح: من حجرة الطبيب
يا له من سجن لا نهائي" إلى صحراء الهرم التي فيها "اختفت الأرض والفراغ
" بين الحديد أوالإطلاق: أمكنة محدّدة أوجه
السيارة نحو شارع الهرم، أو مطلقة "الأفق، الطريق المقفر، ...
ب- وظائفه:|
: إضفاء الطابع الرمزي: صحراء الهرم: رمز للانعتاق
من ضيق الجدران والاتحاد بالمطلق في الكون، وهو مكان طافح بدلالات المقدس والتصوّف
والتماهي في أغوار التجرد، ذلك أن الفراعنة شيدوا
الأهرام ليتحدوا بالحياة حتى بعد الموت في هذا الخلاء حول الهرم وقعت حوادث
تاريخيّة، لذلك كانت صحراء الهرم الموضع الأمثل ليخوض
البطل فيه اللذة مع مارجريت التي قال لها: "هل رأيت الهرم بعد منتصف
الليل ؟ ثم تجربة التصوف والتقشف التي عرف بها تشوة
اليقين". اللوحة: هي تشكيل مكاني رمزي لكل مقومات الرّواية، وانبناؤها على
الاتساع في البداية ولا علامة تدل على وطن من
الأوطان" ثم على الضيق "ها هو الطفل ينظر إلى الأفق ينطبق على الأرض،
دائما
ينطبق على الأرض من أي موقف ترصده" هو الذي تفسّره
مفارقة المكان الذي مثلته عبارة "يا له من سجن لا نهائي".
: إضفاء الطابع التفسي: وذلك بالإخبار عن طبيعة
التعلق النفسي بين البطل والمكان، من ذلك المنزل الذي كان يعود إليه في احتداد
أزمته
متجهم الباطن"، وكذلك العيادة التي لا دخلها ازدادت
شكواه من ثقل جفونه وتكاسل دقات قلبه"
• التنزيل التاريخي: تشدّ أسماء العديد من الأمكنة
الرواية إلى البعد المصري "القاهرة، الإسكندرية، الأهرام، الفيوم،
طنطا"، وهو ما يمكن أن يعلّق
رموز الرواية بمسيرة جيل مصري تقلب في محن وجوبية في
سياق تاريخي تميز بانقلاب القيم وظهور رؤى جديدة للعصر.
• تطوير أعمال الشخصيّة: كان الهرم المكان الذي
يقصده الط عقلما يريد بناء الفعل الوجودي والوقوع على المعنى الذي يتشرّف إليه،
فهو الذي
خاض فيه تجرية المتعة مع وردة عندما انطلق إلى الصحراء
الهرب بسرعة جنونية. ثم تجربة التصوّف عندما انطلق بسيارته وحده- إلى
الطريق الصحراوي وقال إن خروجه هذه الليلة يُعتبر تطورا
ذا تشان".
• تصعيد الفعل المأسوي: ذلك أن القاهرة بعياداتها
وبيوتها ومكاتبها وملاهيها وسواقها، وهم بانفراج أزمة البطل عند دخولها لكن سرعان
ما
تغذي شعوره العدمي بالعقم والفراغ، إذ خرج من العيادة
أوثقة أسئلة بلا جراي اين طيلها؟"، أمّا البيت نفسه أفلم يعد بالمأوى المحبوب"
، والمكتب مكان غريب لا معنى له فمتى توجد
الشجاعة الكافية لإغلاقه"، وعن اللي يقول مصطفى "إنه من النادر أن يظفر
الإنسان
بنشوة الحب في هذا الملاهي"، ولذلك رفض البطل طلب
مارجريت بناء مأوى لهما. وحتى الشاطئ الممتلئ بأبعاد الغرام والطافح بالحياة
يخيّم فيه "الصمت رغم الضجيج"، وهو الذي عمّق
فيه شعوره بالبرود تجاه زوجته عندما أبصر بالموجة تالتطم ثم تنداح في تدهور
مسلمة الروح". لذلك شعر بأن الحياة "سجن كبير
لا نهائي"، فكلما أراد فاق ارتباطه بمكان ما ابتلعه آخر.
* بناء العلاقات بين الشخصيات: تكشف بعض الأمكنة عن
طبيعة العلاقة بين شخصية البطل وبقية الشخصيات وتغيّرها متأثرة بارتداده الدوري
على أزمته؛ من ذلك فراش الزوجية الذي صار كالقبر"
يزدرده بلا راحة"، إذ دل على فقدانه اشتهاءه لزوجته حتى صار الحب تجربة
مريرة ضفر ونضب". كما كان الملهى فرصة لبناء علاقته
بمارجريت ثم وردة.
3- الزمان: أنواعه ودلالاته ووظائفه ا
و الزمن الخارجي، وهو الذي يربط الأحداث في الرواية
بالتاريخ، وهو مهم لفهم بعض القضايا السياسية في الرواية، فنجيب محفوظ يعتبر على
لسان عثمان خليل أن الطبقات الشعبية والفئات الثورية قد
عُزلت سواء من طرف الإقطاع أو ثورة 1952 على حدّ سواء، لذلك احتجت
ورفضت النظام المنبثق عنها، لا سيما الطبقات التي تكتبت
منها، ولما كان عثمان خليل قد دخل السجن سنة 1935 وهو تاريخ ذكر
صراحة في الرواية ثم خرج منه بعد العيد الثالث للثورة أي
سنة 1955 بعد عشرين عاما من السجن ليعود إليه بعد عام ونصف، فإن
الرواية تتنزّل في هذه الفترة التي كثر فيها الحديث عن
نيّة تأميم الحكومة العديد من الممتلكات على لسان البطل تصور أن تكسب
أنجز هذا العمل بمساهمات تلمذيّة من قسم الرابعة أدايا 3
لسنة 2016-2017 بمعهد حنبعل طبرية بأنامل أية وأشواق وآمنة وأميرة وريم وبشرى
ومريم وسمر وأمين ولؤي وسامح ومحمد
القضية اليوم وتمتلك الأرض ثم تستولي عليها الحكومة
غدا" ليجعل من ذلك فعلا كونيا يتصل بالموت الحتميّ: ألسنا نعيش حياتنا ونحن
نعلم أن الله سيأخدُها؟"
: الزمن الداخلي النّفسيّ: هو الزمن المتصل بالشخصية
المحورية، فهو الديمومة التي تتكون فيها ملامح الشخصية وتجري فيها تجاربها
وأفعالها،
لذلك ينفلت هذا الزمن من نظام ثابت ليخضع في تناوبه بين
الماضي والحاضر والمستقبل إلى انفعالات الشخصية وحالاتها النفسيّة
الشعورية:
الماضي: سعى البطل دائما إلى التخلص منه لأنه يوقظ فيه
عقدة الذنب وقرفه من نفسه، وقد حمل الشخصيات التي
تحاوره دائما على العدول عن تنكيره به، لكنه لا يكره
الماضي بل يكره تتكره: "الحق أني لا أحب تذكر الماضي"، ذلك أن
"التنكر شيء
والمعاناة شيء آخر"، وذلك لأن الماضي زمن المبادئ
التي آمن بها وتخلى عنها ليتقلب في حياة البذخ و "الذهنيات على حين رُج
بعثمان
في السجن عشرين عاما ولم يبح باسمه رغم تورطه معه، وكلما
أثير الماضي انفتحت الجراح، لكنه لم يستطع الهروب منه إلى الأبد؛
فقريبا سيخرج الماضي من السجن فيتضاعف عذاب
الوجود"، ويعتبر خروج عثمان انطباقا للماضي على حاضر البطل، ويتجسد ذلك
في قوله له: يا لك من أحمق بنات مجدك في البحث عن شيء
غير موجود".
/ الحاضر: زمن المرض، الذي ابتدأ في الخامسة
والأربعين، وتمثله فترة العامين ونصف العام التي قضاها شاذا يبحث
عن المعنى في أسئلة لا تنتهي وتجارب زائفة، وقد زاد من
حرقة هذا الحاضر اختراق الماضى له دائما،
/ المستقبل: هو الأفق الذي يتوق إليه، وأشارت إليه
اللوحة في بداية الرواية، ذلك الأفق "المنطبق على الأرض الذي يرنو
إليه الطفل، ذلك أن ماضيه ذنب وحاضره مرض، وهو يسعى
لتشكيل هويته خارج هذين الزمنين، لكن الماضي والحاضر يجتذبائه إلى
هوة العدم، حتى عجز عن تمثل عقلي لمستقبله "هاك عقلي
تحت قدميك فاخذ من الحلم جسرا يخرجه من منطق الزمن ومنطق الواقع،
ذلك أن ما هو عقلي يثيره: كلام زينب أعقل مما يجب، لماذا
يثيرني الكلام العاقل هذه الأيام"
ا / النهار والليل: انتهت الأحداث في الرواية ليلا بعد
أن بدأت نهارا لتشكل بذلك دائرة الانغلاق الزمني التي تعمق الانغلاق
في المكان. ويمثل الليل الزمن الذي يخترق به البطل
نواميس الواقع وعوائق ذاته التي تقوى في النهار بين محيط يراقبه، لذلك خاض
مغامرات الوجود تحت جناح الليل، على أمل أن يبعث من جديد
مع الفجر، فهو الزمن الملائم لتصعيد الفعل الوجودي لا سيّما في تجربته
الصوفية "وقال إن خروجه وحده هذه الليلة يُعتبر
تطورا ذا شأن".
4- الترد:
أ- القائم به: ضفر حضور الراوي في "الشحاذ"
كثيرا، فالشخصيّة تكشف بنفسها عمّا في باطنها وبالتالي تغدو الرواية منطوقة على
لسانها أكثر
من كونها منقولة بطريق الشارد، وبطل هذا الرواية المنطوقة
هو بطل فصامي تماما؛ فهو لا يتكلم دوما بضمير المتكلم وإنما كثيرا ما
يخاطب نفسه بضمير المخاطب لماذا تلعن وأنت لم تُضب
بسوء" ويتحدث عنها بضمير الغائب ولاح له مصطفى كنصب تذكاري". وقد
يتداخل صوت الرّاوي مع صوت البطل عندما ينظر من خلال
عينيه كما في تأمّل اللوحة: وها هو الطفل ينظر إلى الأفق ينطبق على
الأرض ... فيا له من سجن أبدي ! وما شأن الجواد
الخشبي؟". وقد يصل التداخل إلى حدّ اضطراب الضمائر وتداخلها في ملفوظ واحد
بين "هو" و "أنت" خاصة عند احتداد
شعوره بالقرف من نفسه: "وذكر الآخر في السجن ... وأنت تمرض في الترف".
لكنّ الرّاوي يرفع
صوته بوضوح أحيانا متمايزا من البطل خاصة الأمر ذي صلة
بتنظيم الفضاء المتردي أو إدارة حوار ما: أوجلسوا جميعا ثم قال بهدوء : لا
شيء. هنفت زينب بنبرة حامدة: الحمد لله.
ب- البنية القصصيّة: مرّت الرواية بأطوار ثلاثة كبرى
تمثلت في مسارات التحوّل النفسي للبطل
:
* الطور الأول: الإحساس بالاختلال ومحاولة تشخيص
أعراض الأزمة
بدأت الرواية بوضع تأزم تمزق ذات البطل بمرض غريب أطبق
على كل جوانب حياته وأمات فيه الرغبة في أي شيء، وهو ما حمله على زيارة
الطبيب لتشخيص هذا المرض لكن الطبيب لم يقف على أصل دائه
لأنه ينظر إليه من خلال عيني طبيب ناجح مقبل على الحياة يعتبر
أن هذا الأعراض لا تتجاوز الإجهاد، حتّى سلم له في
النهاية بأن يكون طبيب نفسه"، ليبدأ بعد ذلك طور بحثه عن شفاء شعوره العدمي.
: الطور الثاني: السعي إلى التجاوز
ابتدأه بتجربة تحرّره من رتابة حياته، فقرر أن يتحرّر من
أعباء العمل وتخلى عن المكتب المساعديه، واخذ نظاما غذائيا صارما
وضحى "بأطنان من اللحوم والبطارخ والزبد وعانى
الاشتياق إلى الطعام بعد شبع طويل"، وهو يظن أنه "بتحرر المعدة تتحرّر
الروح كذلك
وتحلّق"، ثم يُجهد نفسه في ممارسة الرياضة فكان
يمشي آلاف الكيلومترات" حتى تخف الوزن ودب النّشاط، ولكن ما أفظع القلق"
إذ تيقن
أن تحسّنه الجسماني استتبعه تدهور وجودي ما فتئ يتضخم،
وكان ذلك إيذانا بالارتداد إلى الأزمة بعد توهم انفراجها، لذلك بحث عن
المعنى في عالم الأنثى بعد أن ظنّ أنّه لا يُشفى إلا
بنشوة تهز الأعماق، حتى حرّره المرض بالتدرج من حرج المجاهرة بما يسره فاستهان
بآراء الناس والأسرة "وهنأ نفسه على
استهانته". فتعرّف على مارجريت ثم على وردة، فامتلأ من نشوة الجنس والحب حتى
ظن أنها
"اليقين"، لكن الملل تسلل إلى نفسه فأدرك
أنه "ما من قوة تستطيع أن تستديم اللحظة"، ثم جعل يتنقل بين الإناث
"بلا استثناء ولكن بلا
رغبة" حتى أيقن بعبثية التجربة وأدرك أنه لا جدوى
من الاستمرار فيه حتى كان خروجه ذات ليلة وحده إلى الصحراء تطورا ذا شأن"
فكانت العزلة.
- الطور الثالث: الهروب والانعزال
تخلى في هذا الطور عن التقنيا والناس في كوخ ناء على
مشارف الصحراء كأكواخ الزهاد ودخل في حالة غريبة يضطرب فيها بين الوعي واللاوعي
والواقع والرؤيا، وتتوارد على ذهنه تهيؤات وأخيلية غامضة
غريبة فتهتكت القوانين التي تحكم الكائنات" حتى أحس أنه على "شفا
الجنون وفجأة طلع عليه كائن غريب مكوّن من جسم سمير وقد
علاه رأس عثمان، وجرت مطاردة طويلة انتهت بسقوط عمر، ثم جاء
الفصل الأخير الذي انتهى به في سيارة مصايا برصاصة في
ترقوته بعد مطاردة رجال الشرطة لعثمان.
وإن قلة الأحداث راجع إلى اتصال الرواية بمجال الذهن،
فتكت الخواطر والرؤى والتداعيات على حساب الأحداث.
5- الحوار الباطني والحلم:
كلف الحوار الباطني العمق النفسي والذهني لذات البطل
المتتالية في السنة واصطدامه بواقع يملؤه بالشعور بالفراغ والعدم عمّق فيه
انهزاميته لا
سيما بعد اتخاذه كوخا على مشارف الصحراء ليعتزل الدنيا
والتاس، حيث اتخذ الحوار الباطني الحلم جناحا يقلع به من منطق الواقع،
فحطم به النُظم المألوفة وأطلق فيه العنان للأفكار
المرضية اللامنطقية التي هي التجسد الكلي لمأساته فتهتكت القوانين التي تحكم
الكائنات"، لذلك انكسر الزّمن فطاف بخواطره قرونا
من تاريخ الإنسانية في نوان قصر، وتداعي ذهنه بتهيؤات صورت له أصفصافة
تترنّم ببيت من الشعر ... وزحفت حيّة رقطاء ثم بصقت
أنيابها السامة". لنا هل الحلم تصعيدا لانفصام الذات حد بلوغ شفا الجنون،
ذلك أن عالم الحلم الذي يخترق نواميس عالم الواقع لا
ينتبه الحالم إلى فوضاه الا بعد الخروج منه، فنحن نعيش أحلاما غريبة ولا ننتبه
إلى غرابتها إلا بعد الاستيقاظ منها، لذلك بقي عمر معلقا
بين الحلم واليقظة فلم يدرك بعد وهم ما رآه وهو في سيارة الشرطة فجعل يرتد
قوله "بإصرار": القد تكلمت الصفصافة ورقصت
الحيّة وغنّت الخنافس" إلى أن خامره شعور بأن قلبه ينبض في الواقع لا في
الحلم وبأنه
راجع في الحقيقة إلى الدنيا".
6- الوصف: وظائفه ا
• التعبير عن بواطن الشخصيّة: من ذلك وصف الأماكن،
إذ تُنتقى للأماكن عناصر ذات إيحاءات نفسية أو معنويّة، مثل أن إسناد صفات الضيق
والرتابة إلى المكتب يوحي بنفور البطل منه لأنه مكتب
غريب ولا معنى له".
• تكثيف المنزع الرّمزي: وصف اللوحة في الفصل الأول
كتف المنزع الذهني في الرواية؛ إذ اختزلت مختلف أبعادها وقضاياها : "وها هو
الطفل
ينظر إلى الأفق ينطبق على الأرض. دائما ينطبق على الأرض
من أي موقف ترصده، فيا له من سجن لا نهائي !".
* تطوير أعمال الشخصيات: وذلك حين يُعتمد الوصف
للتأثير في سلوك الشخصيّة وتوجيهه، من ذلك أنّ وصف جوانب الأنوثة في شخصيّة
مارغريت قد دفع عمر إلى خوض تجارب المتعة بعد تردد ثمّة
خطوط رشيقة في صفحة الوجه ونظرة في العينين الملوّنتين وخفة في الحركة، لعل
من تضامنها جميعا تنبثق النّشوة المستعصية المنشودة".
أنجز هذا العمل بمساهمات تلمذيّة من قسم الرابعة أدابا 3
لسنة 2016-2017 بمعهد حنّبعل طبرية بأنامل أية وأشواق وآمنة وأميرة وريم وبشرى
ومريم وسمر وأمين ولؤي وسامح ومحمد
: وظيفة تفسير: يضطلع بها الوصف الذي يحصل منه ما
يمكن أن يُفسر بعض سلوكات الشخصيات وأوضاعها وعلاقاتها، من ذلك سعي
الطبيب إلى تفسير مرض الحمزاوي : أنت رجل ناجح ثري، نسيت
المشي أو كدت، تأكل فاخر الطعام، وتشرب الخمور الجيّدة
- القضايا الدُهنيّة:
المقصود بالذهني في الرواية هو أن المقومات الفنية رموز
لا تحيل على مجرّد أشياء موضوعية في الواقع، وإنّما يحيل كل مقوم على قضيّة ما
ويعد من أبعاد الشخصيّة، وقد رأينا ذلك في دلالات كل
مقوم من البناء الفتي الشخصيات، المكان والرّمان، الحوار والسرد والوصف)،
ويمكن أن نبوّب القضايا الذهنية في الرواية كالأتي:
منزلة الفن والعلم في العصر الحديث: طرحت هذه القضية في
الحوار بين الحمزاوي والمنياوي من جهة تصادم موقفهما من مسألة انحطاط الفن
في العصر الحديث، فبينما اعتبر عمر أن الفن لم يعد له
قيمته أمام زحف العلم ومظاهر المتعة في العصر، يرى المنياوي أنّ مفهوم الفن
هو الذي تغير، وما نظن أنه الفن الحقيقي ليس إلا
"الضوء القادم من نجم مات منذ ملايين السنين". وعمر يقر بأن العصر لم
يعد للفن،
لذلك يلح على بثينة أن تجمع إلى تعلقها بالشعر
"دراستها العلميّة"، فالتعلق المجرّد بالفنّ أصبح مقترنا بعصر قديم، لذا
يخشى عليها أن
تنتبه فتجد نفسها في العصر الحجري". حتى أن العلم
قد احتل مواقع الآداب والعقائد، فمصطفى يجد في العلم دينا وشعرا وفلسفة".
فأزمة العصر الحديث من هذه الجهة ماثلة في القضاء على
قيمة الفن والفلسفة، وهو ما غدّى الأساس المادي لتفكير البطل الذي أصبح
يرى في الشعر "عبث طفولة لا أكثر ولا أقل"،
وهذا التخلي عن الاعتبار المنزلة الشعر استتبع تجرّدا آخر من المبادئ والانتماء.
الانتماء والثبات على المبادئ: يمثل عثمان خليل التناقض
الجذري بين ماضي البطل وحاضره من جهة المبادئ التي آمن بها في شبابه وتخلى
عنها ليغرق في المواد الدهنية"، ذلك أن عثمان تجلى
في أكثر من موضع عقدة ذنب تحمل البطل على جلد ذاته أوذكر الآخر في
السجن ... يوم احترقت بلهيب الخطر. لكنه لم يعترف. رغم
الأهوال لم يعترف. وذاب في الظلمات كأن لم يكن. وأنت تمرض في
الترف". ويتجاوز البطل تمثيل ذاته فحسب ليرمز إلى
جيل بأكمله انحرف عن المبدئيّة والإيمان بالثورة التي تنشد البدائل من واقع فاسد،
فيتلوث بمغريات عصر يفتح أبواب الماديّات المتوحشة
والثروة لتبتلعه حتى تنتزع الإنساني منه. وتُعرّض الرواية في ذلك برياء التخب
و ذلك أنها تدعي تمثيل شعبها في مطالبتها بحقوقه ثم
ينكشف زيف ما تقول به عند اختبار صدقها أمام إغراء الثروة
الاجتماعي، وهي فوق ذلك تحاول تبرير هذا الانحراف لتعذه
تطورا وتقدما في الفهم، وهذا ما يكشفه عثمان في رفضه السعي
مصطفى إلى إقناعه بوجاهة التحول في تفكيره "إذا كنت
أنت قد تغيّرت فلا يعني هذا أن الحقيقة يجب أن تتغير".
: قيمة العقل: إن المعرفة المتأتية من طريق العقل لم
تعد مقنعة ليتعلّق الإنسان بالواقع ويرتضي به شاعرا بإنسانيته فيه؛ ذلك أن الأشياء
العقلية
نقك وكأنها تستفرّك. التصرفات العاقلة تغضبك بلا سبب،
فالصدور عن العقل ينتظم العالم في جملة من القواعد المنتهاة التي لا
يستطيع الإنسان تحطيمها، فهو في عالم مغلق من التوقعات،
والنّفس الثائقة إلى اللامحدود لا تطيق الحصر، إنّما تتعلّق بالخارج عن
العادي والصادم، فما أجمل أن يثور البحر حتى يُطارد
المتسكعين على الشاطئ. وأن يرتكب السائرون على الكورنيش حماقات لا يمكن
تخيّلها. وأن يطير الكازينو الكبير فوق السحاب ..."
لذا يبحث البطل في الرواية عن مصادر أخرى لمعرفة معنى الوجود، فحتى الموت لا
يفكر فيه كما يفكر العقلاء". ولهذا أيضا تملكه
المرض رغم إقراره بكونه في كامل مداركه العقلية، فلم تشفه صحة عقله من مرض
الخواء الوجودي الذي حاصره الكتي متهم بالجنون لسلوكي".
: الجنس والحب: يشير فشل البطل في الوقوع على معنى
الوجود من خلال توهم كونه موجودا في الجنس مع مرغريت ثم في الحب مع وردة أو
حتى هما معا مجتمعين في زينب - إلى أن ذات الإنسان إذا
ما امتلأت بإنفاذ رغبة الجسد أو بالشبع من الحب سيتملكها الشعور بالخواء
من كل ذلك، ولهذا لا يمكن قصر مفهوم السعادة عليهما، ذلك
لأن هذا الرّغبات والعواطف تشدّ الإنسان إلى المحدود، وانغلاقه عليهما
سيسرّب الأم إلى نفسه ويقوي فيه رغبة الهجران التي تملكت
البطل مع الثلاث: زينب ومرغريت ووردة. فظمأ الإنسان إلى المعنى يتجاوز
توقفه عند الجسد أو الحب، القالقلب مضخة ... ومن الخرافة
أن نتصوره وسيلة إلى الحقيقة" وحتى التوازن بينهما الذي كثيرا ما يوهم
بالسعادة غير كاف، لأن شعور الإنسان بالخواء يقوى عند
الامتلاء من كل ذلك.
: التصوف والعزلة: إن تجربة اعتزال الصحراء هي آخر
المسارات الوجوديّة في الرواية، وكونها الأخيرة يستدعي اعتبارها تصعيدا للفعل
الوجودي
إلى ذروته، وهي مفارقة تظم عالم الواقع؛ ذلك أن التصوّف
يفك ارتباط الذات بحدود المكانيّة والمادية، ويلج بها عوالم المكاشفات
والحلوليّة في وحدة الكون، فالبطل لم يبلغ هذه المرحلة
إلا بعد امتلائه المطلق من مصادر العالم الدنيوي: الثروة والعمل والأسرة والجنس
والحب، فلم يجد في ذلك كله ما يشفي غليل السؤال عن
المعنى في صدره، فقرر اعتزال كل ذلك، فالتصوّف هنا هو تجرّد الذات من كل
ما يُعلقها بمظاهر العالم الدنيوي التي تشبع الجسد ولا
تروي الروح لذلك يسأل نفسه عن الشعور بنشوة اليقين في الصحراء "ألا يستحق أن
ينبذ كل شيء من أجله؟" . لذلك اقترنت طقوس التصوّف
في المخيال العام بالجنون، وقد مثلتها هذيانات الحلم والتهيؤات الغريبة التي
يراها، وفي عمق هذه التجربة يتخلص المرء من اعتبار الآخر
وسلطته النفسية، فهو لن يبالي بعد الآن بما يخسره في الدنيا يا لك من
أحمق بددت مجدك في البحث عن شيء غير موجود
: معنى الحياة وعبثيتها: إن سؤال المعنى هو الذي جعل
البطل شحاذا في الليل والنهار ... في القراءة المجدبة والشعر العقيم ... في
الصلوات
الوثنيّة، في باحات الملاهي الليلية. في تحريك القلب
الأصم بأشواك المغامرات الجهنمية"، فكل ما يمثل في التصور الجمعي العام مصدرا
المعنى الحياة والسعادة فيها، من الثروة والعمل المرموق
والأسرة الهانئة والمتعة المتأتية من كل الطرق، لا يُشعر الإنسان الواعي بعمق
الكون بالمعنى الذي يحقق فيه إنسانيته، فكأنّ كل ما
يعيشه عبث لا معنى له، ذلك أن توق الإنسان لا يعرف حدودا، وبلوغ الذروة من
كل شيء يشعره بالعدميّة لأنه كما قال مصطفى الم تعد
أمامك غاية تتطلع إليها".
lll- النقاش العام التقييم:
: في محنة البطل: لا يمكن اعتبار قلق البطل ومرضة
الغريب الذي جرّه إلى تجارب انتهى منها إلى شفا الجنون مجرّد مأساة انهزم فيها
أمام
الحيرة من سؤال الوجود، فمكمن العمق في هذه المأساة هو
وعيه بأن مفهوم الإنسان لا يمكن اختزاله في الشبع التنيوي من مصادر اللذة
والثروة والهناء الأسري، إنّما الإنسان الحق أكبر من الي
يحتويه كل ذلك. لذا لم يرتضي البطل لنفسه أن يكون مثل قطيع الأبقار في اللوحة
التي ترعى تعكس أعينها طمأنينة راسخة وما هي ان العامة
التي ترى في التشبّع من متع الحياة راحتها واستقرارها الراسخ، وإنما كان
البطل ذلك الطفل الذي يتطلع إلى الأفق". وخوض مغامر
وجودية يتجرّد فيها من كل أسباب النجاح الدّنيوي هو في حد ذاته انتصار
على الضعف الذي يعلّقه بكل ذلك.
- في أن الشخصيات هي مجرد رموز لوجوه من محنة البطل:
إن للشخصيات في الرواية محنتها الخاصة المستقلة عن محنة البطل، فهي ليست
مجرّد مرايا تعكس تشظي ذاته فحسب، ذلك أن عثمان خليل
تجرع مرارة التجلي عشرين عاما، قبل أن يعود إليه من جديد دافعا ثمن
نضاله وإيمانه بمبادئه التي تخلى عنها البطل، فلم يذق
محنة السجن مثل تهان وانما تمرض في الترف وغرق في المواد الدهنية"،
ومعاناة عثمان مضاعفة لأنه اصطدم بالتحوّل في مواقف
صديقيه اللذين تكتم عليهماهوذا ويلات التعذيب حتى لا يورطهما معه الكتكما
تطوّرتما إلى الوراء". فعثمان رمز للمثقف العضوي
الذي يصارع دولة تتكرت لمبات الثورة الاشتراكية من جهة ونخبة مقفة لم تعد ترى
في مواقفها المبدئية ضرورة حتمية". كما أن زينب
وبثينة دفعنا ثمن تغير البطل الذي هجر البيت بعد افتضاح حقيقة خيانته وكذبه على
ابنته وتتكره لفضل زوجته عليه، وبذلك جرّهما البطل إلى
معاناته كرها. وكذا وردة ومرغريت اللتين وجدتا نفسيهما منقادتان إلى المجهول
الذي يسير فيه بطل موكل بالسؤال والقلق والمرض.
: في اختلال بنية الرواية: إن تشظي السرد وانكسارات
البنية الحدثية واختراق الأزمنة بعضها البعض ليس يُضعف المنطق والنظام الذي خلف
هذه
الفوضى الظاهرة؛ ذلك لأن هذا التمزق البنيوي منسجم مع
انشطار ذات البطل وفصامه العميق، ثم إن تداخل الأدوات الفنية يشد الرواية
إلى الطابع الذهني الذي يريده الكاتب لنضه، فتتم بنية
الترد تنظما محكما قد لا يظهر عمق أزمة الشخصيّة مثلما تكشف عنه بجلاء
البنية المتشظية، وغلبة الحوار الباطني تفسر كذلك هذا
التشظي؛ فهو لا يتبع منطق انتظام الأحداث في الواقع بل يتبع انفعالات
الشخصية واضطرابها النفسي وحالات قلقها المستمر